غزة- الإبادة الصهيو-أمريكية تفضح ازدواجية النظام العالمي.

هل ستكون حرب الإبادة الجماعية المدعومة من أمريكا والتي يشنها الكيان الصهيوني على أهل غزة منذ ما يقارب النصف عام، الضربة القاضية التي تودي بالنظام العالمي الذي تقوده أمريكا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها في ظل الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها الإدارة الأمريكية بين الفينة والأخرى، والتي تعكس بجلاء عجز هذا النظام عن تحقيق السلام المنشود، وترسيخ الاستقرار، وإقامة العدل، وتحقيق الازدهار لجميع قاطني هذا الكوكب.
كما أنها تظهر بجلاء كيف تستخدم أمريكا هذا النظام لتحقيق أهدافها ومصالحها الذاتية الضيقة، دون أدنى اكتراث بالثمن الغالي الذي يدفعه العالم جراء هذه السياسات. وما نراه في غزة من فظائع على أيدي قوات الاحتلال الغاشم، هو خير دليل على ذلك، حيث عمدت أمريكا إلى تعطيل النظام العالمي ومؤسساته، وذلك بهدف منح الضوء الأخضر للإحتلال لإتمام جرائمه بوحشية وهمجية لا مثيل لها أمام أنظار العالم أجمع.
الذكرى السنوية الثانية للحرب الروسية الأوكرانية تحل في نفس الوقت مع الأحداث المأساوية التي تشهدها غزة، لتكشف عن حجم الشرخ العميق الذي أحدثته أمريكا في صرح النظام العالمي، والذي بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.
إن تصريحات الرئيس بايدن وكبار المسؤولين في إدارته، والتي صدرت بمناسبة الذكرى الثانية للحرب الروسية على أوكرانيا، ما هي إلا بمثابة شهادة إدانة للإدارة الأمريكية، وتورطها بشكل مباشر في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، بالإضافة إلى الدعم السخي والمتواصل الذي تقدمه للكيان الصهيوني، متجاوزة بذلك جميع القوانين والمواثيق الدولية، وعاملة على تعطيل النظام العالمي ومؤسساته.
تحت مجهر التاريخ
في خطابه بمناسبة مرور عامين على اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، جدد الرئيس الأمريكي جو بايدن تذكير العالم بالجريمة التي اقترفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وأشاد بشجاعة الشعب الأوكراني الذي "يواصل نضاله بعزيمة لا تلين للدفاع عن حريته ومستقبله"، وأكد على أن حلف شمال الأطلسي "أصبح أقوى وأكبر وأكثر اتحادًا من أي وقت مضى"، وأن "التحالف العالمي غير المسبوق، الذي يضم 50 دولة لدعم أوكرانيا بقيادة الولايات المتحدة ملتزم بتقديم المساعدة الحاسمة لأوكرانيا ومحاسبة روسيا على عدوانها".
هذا الكلام كان مقبولًا من الرئيس بايدن في الذكرى السنوية الأولى، حين طالب بوتين بالانسحاب الفوري من المناطق الأوكرانية بدون شروط أو قيود، وأكد على أن دعم الحلفاء لأوكرانيا سيستمر حتى تحقق النصر. ولكن الذكرى السنوية الثانية للحرب تأتي في خضم حرب إبادة جماعية يشنها التحالف الصهيو أمريكي على الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة. هذه الحرب كشفت بما لا يدع مجالًا للشك السياسات المنحازة التي تنتهجها الولايات المتحدة في إدارة مصالحها ومصالح حلفائها في العالم، وفضحت الانتهاكات الصارخة التي ترتكبها بحق النظام العالمي والقانون الدولي والإنساني.
إن التصريحات الصادرة عن الرئيس بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، وممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ليندا غرينفيلد، ومديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانتا باور؛ تعتبر بمثابة وثيقة إدانة قوية للإدارة الأمريكية، نظرًا لدورها المشين في حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والسياسات والإجراءات الداعمة للكيان الصهيوني في هذه الحرب، والتي تجاوزت فيها كافة الحدود والمواثيق والقوانين والأعراف الدولية، وعطلت النظام العالمي ومؤسساته، وانحرفت عن مسار الحق والعدل، وخذلت المظلوم، وساندت الجاني وشجعته على ارتكاب أفظع الجرائم التي لم يشهد لها التاريخ مثيلًا.
لقد وصفت الإدارة الأمريكية الرئيس بوتين بأبشع النعوت، ونعته بالوحش المجرم، وسخرت من المبررات الواهية التي ساقها لشن الحرب على أوكرانيا، وأحصت جرائمه بحق المدنيين والنساء والأطفال، واتهمته بانتهاك النظام العالمي والقانون الدولي، والاعتداء السافر على سيادة أوكرانيا وحدودها المعترف بها دوليًا.
بالمقابل، منحت رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو الحق المطلق في الدفاع عن دولته وشعبه، وقدمت له الدعم العسكري والسياسي والمالي في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، معتبرة ذلك متسقًا مع النظام العالمي والقانون الدولي والإنساني، وذلك للقضاء على ما تسميه الإرهاب الذي تمارسه حركة حماس والمقاومة الفلسطينية الباسلة، التي تدافع عن حقوقها المشروعة منذ أكثر من سبعة عقود.
لقد حشدت الإدارة الأمريكية تحالفًا دوليًا واسعًا يضم أكثر من خمسين دولة، بما فيها دول حلف الناتو، للوقوف في وجه الرئيس بوتين، وتقديم كل ما تحتاجه أوكرانيا وجيشها لتحقيق النصر في معركة السيادة والحرية والديمقراطية، وفي المقابل حشدت القوى الغربية للوقوف في وجه المقاومة الفلسطينية المشروعة وحقها الأصيل في التحرر من الاحتلال وإقامة دولتها المستقلة ذات السيادة.
قدمت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها كافة أشكال الدعم والمساندة لأوكرانيا حكومة وجيشًا وشعبًا، داخل أوكرانيا وخارجها، وسخرت الأمم المتحدة ووكالاتها وجميع المؤسسات الدولية للقيام بواجبها تجاه أوكرانيا وشعبها، وقدموا لهم كافة التسهيلات بسلاسة ويسر.
في المقابل، تقف الولايات المتحدة، زعيمة النظام العالمي، وعواصم الغرب الكبرى، والأمم المتحدة بكل وكالاتها عاجزة تمامًا عن إدخال المساعدات الإنسانية الضرورية للشعب الفلسطيني المحاصر، وبدلًا من أن تستخدم نفوذها لإنفاذ القانون الدولي والإنساني؛ تبرر للكيان الصهيوني تعنّته المتعمد في إدخال المساعدات، وتشترك معه ومع عدد من الدول العربية والغربية، في مسرحية هزلية دموية، يتم فيها إلقاء صناديق المساعدات على المنكوبين والجوعى عن طريق الطائرات العسكرية، في مشاهد درامية سريالية تنتهي بمجزرة دامية على يد جيش الاحتلال، الذي يقتل ويجرح المئات من بين الحشود التي تدافعت للحصول على لقمة تسد رمقهم.
يا لها من مفارقة عجيبة وغريبة! كيف يعجز النظام العالمي عن فرض ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية للمنكوبين في غزة، وكيف يعجز عن وضع حد لهذا العدوان الصهيوني الإجرامي الذي لم يشهد له التاريخ مثيل؟
سخرية النظام العالمي
أي مهزلة وأي سخرية تلك التي يعجز فيها النظام العالمي عن فرض ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية الضرورية للمنكوبين في غزة، وكيف يعجز عن تنظيم آلية فعالة لتسليم المساعدات وفحصها وتوزيعها بشكل عادل ومنظم، وكيف يعجز عن إرسال لجان تحقيق دولية لتقصي الحقائق والتحقيق في جرائم الإبادة الجماعية والأعمال الوحشية والهمجية التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني بحق المدنيين الأبرياء؟
في الوقت الذي تستقبل فيه السيدة ليندا غرينفيلد، مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، وفدًا إسرائيليًا الأسبوع الماضي، بعد مرور أكثر من مئة وأربعين يومًا على بدء حرب الإبادة في غزة، يعيد على مسامعها نفس المزاعم والأكاذيب التي سبق أن رددوها مرارًا وتكرارًا، والتي ثبت زيفها بالدلائل القاطعة والبراهين الدامغة، مثل: أعمال العنف القائم على النوع الاجتماعي، والعنف الجنسي، لتعرب لهم غرينفيلد عن تضامنها الكامل معهم، وتؤكد على "أهمية أن يواصل الشهود مشاركة قصصهم حتى لا ينسى العالم أفعال حماس!"
يا له من عار ويا لها من فضيحة! كيف يعجز النظام العالمي برمته بكل مؤسساته وهيئاته ومنظماته عن فرض وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة المحاصر، ووضع حد لهذه الفوضى الإجرامية الصهيونية التي لم يسبق لها مثيل على مرأى ومسمع من العالم أجمع؟
يقول الرئيس بايدن في خطابه الفاضح والغريب بمناسبة مرور عامين على الحرب الروسية في أوكرانيا: "إن الرئيس بوتين سيواصل نشر الموت والدمار في أوكرانيا إذا لم يدفع ثمن ما يقوم به من جرائم"، أما الدمار الشامل الذي يقوم به نتنياهو في غزة فلا يراه السيد بايدن، ولا تراه الولايات المتحدة ولا يراه النظام العالمي الذي ترأسه، على الرغم من أنه تسبب خلال فترة وجيزة لا تتعدى الخمسة أشهر في سقوط أضعاف أضعاف الضحايا المدنيين الأوكرانيين الذين سقطوا على أيدي القوات الروسية خلال عامين كاملين.
حرب الإبادة الجماعية المدعومة أمريكيًا في قطاع غزة لم تترك ذرة من المصداقية للولايات المتحدة الأمريكية والنظام العالمي الذي تدعي الدفاع عنه، ولم تترك لها أي حجة مقنعة للدفاع عن أهمية الحفاظ على هذا النظام، في وجه الأصوات المتصاعدة التي تدعو إلى إسقاطه، وترفض استمرار الهيمنة الأمريكية عليه. ولكن للأسف الشديد، فإن غطرسة القوة لا تعترف إلا بما تراه متوافقًا مع مصالحها الضيقة، حتى لو كان ذلك مخالفًا للقوانين والأعراف والأنظمة الدولية، فالحق الذي تراه باطلًا سيظل باطلًا، والباطل الذي تراه حقًا سيظل حقًا، إلى أن تتغير موازين القوى في هذا العالم، وتتبدل معها الأنظمة والقوانين.
وحتى يحين ذلك الوقت، ستواصل الإدارة الأمريكية الحالية والإدارات المتعاقبة من بعدها، ممارسة سلوكيات الهيمنة والغطرسة والتعالي، مهما كان الثمن الذي يدفعه الضعفاء والمساكين والجوعى والمظلومون من أبناء هذا العالم.
وانطلاقًا من هذا المنطق، نجد الرئيس بايدن لا يخجل أبدًا من أن يختم كلمته بمناسبة الذكرى السنوية الثانية للحرب الروسية على أوكرانيا بقوله: "نحن نقف اليوم تحت مجهر التاريخ، ولن ينسى لنا التاريخ أبدًا إذا تقاعسنا عن دعم أوكرانيا في هذه اللحظة الحرجة. لقد حان الوقت لكي نقف بقوة وثبات مع أوكرانيا، متحدين مع حلفائنا وشركائنا. لقد حان الوقت لنثبت للعالم أجمع أن الولايات المتحدة الأمريكية تدافع عن الحرية ولا تنحني لأحد."
